فصل: من فوائد الخازن في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن الجوزي في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {مثلهم كمثَل الذي اسْتوقد نارًا}.
هذه الآية نزلت في المنافقين.
والمثل بتحريك الثاء: ما يضرب ويوضع لبيان النظائر في الأحوال.
وفي قوله تعالى: {استوقد} قولان:
أحدهما: أن السين زائدة، وأنشدوا:
وداعٍ دعا يا من يجيب إِلى الندى ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أراد: فلم يجبه، وهذا قول الجمهور، منهم الأخفش وابن قتيبة.
والثاني: أن السين داخلة للطلب، أراد: كمن طلب من غيره نارًا.
قوله تعالى: {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون}.
وفي {أضاءت} قولان: أحدهما: أنه من الفعل المتعدي، قال الشاعر:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ** دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

وقال آخر:
أضاءت لنا النار وجهًا أغرَّ ** ملتبسًا بالفؤاد التباسا

والثاني: أنه من الفعل اللازم.
قال أبو عبيد: يقال أضاءت النَّار، وأضاءها غيرها.
وقال الزجاج: يقال: ضاء القمر، وأضاء.
وفي {ما} قولان:
أحدهما: أنها زائدة، تقديره: أضاءت حوله.
والثاني: أنها بمعنى الذي.
وحول الشَّيء: ما دار من جوانبه.
والهاء: عائدة على الْمستوقد.
فإن قيل: كيف وحد.
فقال: {كمثل الذي استوقد} ثم جمع فقال: {ذهب الله بنورهم}؟ فالجواب: أن ثعلبا حكى عن الفراء أنه قال: إنما ضرب المثل للفعل، لا لأعيان الرجال، وهو مثل للنفاق، وإنما قال: {ذهب الله بنورهم} لأن المعنى ذاهب إلى المنافقين، فجمع لذلك.
قال ثعلب: وقال غير الفراء: معنى الذي: الجمع، وحد أولًا للفظه، وجمع بعد لمعناه، كما قال الشاعر:
فان الذي حانت بفلج دماؤهم ** هم القوم كلُّ القوم يا أم خالد

فجعل الذي جمعًا.

.فصل: اختلاف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين:

اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين.
أحدهما: أنه ضرب بكلمة الإِسلام التي يلفظون بها، ونورها صيانة النفوس وحقن الدماء، فإذا ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النَّار ضوءه.
وهذا المعنى مروي عن ابن عباس.
والثاني: أنه ضرب لإِقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول، فذهاب نورهم: إِقبالهم على الكافرين والضلال، وهذا قول مجاهد.
وفي المراد بالظلمات هاهنا أربعة أقوال:
أحدها: العذاب، قاله ابن عباس، والثاني: ظلمة الكفر، قاله مجاهد.
والثالث: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت؛ قاله قتادة.
والرابع: أنها نفاقهم، قاله السدي.

.فصل: حِكَم في ضرب المثل لهم بالنار:

وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم:
إحداها: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم؛ كان نور إيمانهم كالمستعار.
والثانية: أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة الحطب، فهو له كغذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إِلى مادة الاعتقاد ليدوم.
والثالثة: أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء، فشبه حالهم بذلك. اهـ.

.من فوائد الخازن في الآية:

قال رحمه الله:
قوله عزّ وجلّ: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} المثل عبارة عن قول يشبه ذلك القول قولًا آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره، ولهذا ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه، وهو أحد أقسام القرآن السبعة ولما ذكر الله تعالى حقيقة وصف المنافقين عقبه بضرب المثل زيادة في الكشف والبيان، لأنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، ولأن المثل تشبيه الخفي بالجلي، فيتأكد الوقوف على ماهيته وذلك هو النهاية في الإيضاح، وشرطه أن يكون قولًا فيه غرابة من بعض الوجوه كمثل الذي استوقد نارًا لينتفع بها {فلما أضاءت} يعني النار {ما حوله} يعني حول المستوقد {ذهب الله بنورهم} فإن قلت كيف وحد أولًا ثم جمع ثانيًا.
قلت يجوز وضع الذي يوضع الذي كقوله: {وخضتم كالذي خاضوا} وقيل إنما شبه قصتهم بقصة المستوقد، وقيل معناه مثل الواحد منهم كمثل الذي استوقد نارًا {وتركهم في ظلمات لا يبصرون} قال ابن عباس: نزلت في المنافقين يقول مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارًا في ليلة مظلمة في مفازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة حائرًا مختوفًا، فكذلك حال المنافقين أظهروا كلمة الإيمان فأمنوا بها على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وناكحوا المسلمين وقاسموهم في الغنائم فذلك نورهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف.
وقيل: ذهاب نورهم عقيدتهم للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل ذهاب نورهم في القبر أو على الصراط.
فإن قلت ما وجه تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة؟ قلت: وجه تشبيه الإيمان بالنور أن النور أبلغ الأشياء في الهداية إلى المحجة القصوى وإلى الطريق المستقيم وإزالة الحيرة وكذلك الإيمان هو الطريق الواضح إلى الله تعالى وإلى جنانه، وشبه الكفر بالظلمة لأن الضال عن الطريق المسلوكة في الظلمة لا يزداد إلاّ حيرة وكذلك الكفر لا يزداد صاحبه في الآخرة إلاّ حيرة.
وفي ضرب المثل للمنافقين بالنار ثلاث حكم: إحداها أن المستضيء بالنار مستضيء بنور غيره فإذا ذهب ذلك بقي هو في ظلمته فكأنهم لما أقروا بالإيمان من غير اعتقاد قلوبهم كان إيمانهم كالمستعار.
الثانية أن النار تحتاج في دوامها إلى مادة الحطب لتدوم فكذلك الإيمان يحتاج إلى مادة الاعتقاد ليدوم الثالثة أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد قبلها ضياء فشبه حالهم بذلك. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
قال الزمخشري: لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بذكر ضرب المثل زيادة في الكشف وتتميمًا للبيان، ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب بأنه مشاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد وقمع لسورة الجامح الآبي، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء، فقال الله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العاملون} ومن سور الإنجيل سور الأمثال، انتهى كلامه.
ومثلهم: مبتدأ والخبر في الجار والمجرور بعده، والتقدير كائن كمثل، كما يقدر ذلك في سائر حروف الجر.
وقال ابن عطية: الخبر الكاف، وهي على هذا اسم، كما هي في قول الأعشى:
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ** كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

انتهى.
وهذا الذي اختاره ونبأ به غير مختار، وهو مذهب أبي الحسن، يجوز أن تكون الكاف اسمًا في فصيح الكلام، وتقدم أنا لا نجيزه إلا في ضرورة الشعر، وقد ذكر ابن عطية الوجه الذي بدأنا به بعد ذكر الوجه الذي اختاره، وأبعد من زعم أن الكاف زائدة مثلها في قوله: فصيروا مثل: {كعصف مأكول} وحمله على ذلك، والله أعلم، أنه لما تقرر عنده أن المثل والمثل بمعنى، صار المعنى عنده على الزيادة، إذ المعنى تشبيه المثل بالمثل، لا يمثل المثل والمثل هنا بمعنى القصة والشأن، فشبه شأنهم ووصفهم بوصف المستوقد نارًا، فعلى هذا لا تكون الكاف زائدة.
وفي جهة المماثلة بينهم وبين الذي استوقد نارًا وجوه ذكروها:
الأول: أن مستوقد النار يدفع بها الأذى، فإذا انطفأت عنه وصل الأذى إليه، كذلك المنافق يحقن دمه بالإسلام ويبيحه بالكفر.
الثاني: أنه يهتدي بها، فإذا انطفأت ضل، كذلك المنافق يهتدي بالإسلام، فإذا اطلع على نفاقه ذهب عنه نور الإسلام وعاد إلى ظلمه كفره.
الثالث: أنه إذا لم يمدها بالحطب ذهب ضوؤها، كذلك المنافق، إذا لم يستدم الإيمان ذهب إيمانه.
الرابع: أن المستضيء بها نوره من جهة غيره لا من جهة نفسه، فإذا ذهبت النار بقي في ظلمة، كذلك المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد قلبه كان نور إيمانه كالمستعار.
الخامس: أن الله شبه إقبالهم على المسلمين بالإضاءة وعلى المشركين الذهاب، قاله مجاهد: السادس: شبه الهدى الذي باعوه بالنور الذي حصل للمستوقد، والضلالة المشتراة بالظلمات.
السابع: أنه مثل ضربه الله للمنافق لأنه أظهر الإسلام فحقن به دمه ومشى في حرمته وضيائه ثم سلبه في الآخرة عند حاجته إليه، روي معناه عن الحسن، وهذه الأقاويل على أن ذلك نزل في المنافقين، وهو مروي عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل.
وروي عن ابن جبير، وعطاء، ومحمد بن كعب، ويمان بن رئاب، أنها في اليهود، فتكون في المماثلة إذ ذاك وجوه ذكروها:
الأول: أن مستوقد النار يستضيء بنورها ويتأنس وتذهب عنه وحشة الظلمة، واليهود لما كانوا يبشرون النبي صلى الله عليه وسلم ويستفتحون به على أعدائهم ويستنصرون به فينصرون، شبه حالهم بحال المستوقد النار، فلما بعث وكفروا به، أذهب الله ذلك النور عنهم.
الثاني: شبه نار حربهم التي شبوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنار المستوقد، وإطفاءها بذهاب النور الذي للمستوقد.
الثالث: شبه ما كانوا يتلونه في التوراة من اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته وصفة أمته ودينه وأمرهم باتباعه بالنور الحاصل لمن استوقد نارًا، فلما غيروا اسمه وصفته وبدلوا التوراة وجحدوا أذهب الله عنهم نور ذلك الإيمان، وتقدم الكلام على الذي، وتقدم قول الفارسي في أنه يجري مجرى من في الإفراد والجمع، وقول الأخفش أنه مفرد في معنى الجمع، والذي نختاره أنه مفرد لفظًا وإن كان في المعنى نعتًا لما تحته أفراد، فيكون التقدير كمثل الجمع الذي استوقد نارًا كأحد التأويلين في قوله:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم

ولا يحمل على المفرد لفظًا ومعنى بجمع الضمير في ذهب الله بنورهم، وجمعه في دمائهم.
وأما من زعم أن الذي هنا هو الذين وحذفت النون لطول الصلة، فهو خطأ لإفراد الضمير في الصلة، ولا يجوز الإفراد للضمير لأن المحذوف كالملفوظ به.
ألا ترى جمعه في قوله تعالى: {وخضتم كالذي خاضوا} على أحد التأويلين، وجمعه في قول الشاعر:
يا رب عبس لا تبارك في أحد ** في قائم منهم ولا فيمن قعد

إلا الذي قاموا بأطراف المسد

وأما قول الفارسي: إنها مثل مَن، ليس كذلك لأن الذي صيغة مفرد وثني وجمع بخلاف مَن، فلفظ مَن مفرد مذكر أبدًا وليس كذلك الذي، وقد جعل الزمخشري ذلك مثل قوله تعالى: {وخضتم كالذي خاضوا} وأعل لتسويغ ذلك بأمرين، قال: أحدهما: أن الذي لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة واستطالته بصلته حقيق بالتخفيف، ولذلك نهكوه بالحذف، فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين، وهذا الذي ذكره من أنهم حذفوه حتى اقتصروا به على اللام، وإن كان قد تقدمه إليه بعض النحويين، خطأ، لأنه لو كانت اللام بقية الذي لكان لها موضع من الإعراب، كما كان للذي، ولما تحظى العامل إلى أن يؤثر في نفس الصلة فيرفعها وينصبها ويجرها، ويجاز وصلها بالجمل كما يجوز وصل الذي إذا أقرت ياؤه أو حذفت، قال: والثاني: إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إنما ذلك علامة لزيادة الدلالة، ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع والواحد فيهن سواء؟ انتهى.
وما ذكره من أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون صحيح من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فليس كذلك، بل هو مثله من حيث المعنى، ألا ترى أنه لا يكون واقعًا إلا على من اجتمعت فيه شروط ما يجمع بالواو والنون من الذكورية والعقل؟ ولا فرق بين الذين يفعلون والفاعلين من جهة أنه لا يكون إلا جمعًا لمذكر عاقل، ولكنه لما كان مبنيًا التزم فيه طريقة واحدة في اللفظ عند أكثر العرب، وهذيل أتت بصيغة الجمع فيه بالواو والنون رفعًا والياء والنون نصبًا وجرًا، وكل العرب التزمت جمع الضمير العائد عليه من صلته كما يعود على الجمع المذكر العاقل، فدل هذا كله على أن ما ذكره ليس بمسوغ لأن يوضع الذي موضع الذين إلا على التأويل الذي ذكرناه من إرادة الجمع أو النوع، وقد رجع إلى ذلك الزمخشري أخيرًا.
وقرأ ابن السميفع: كمثل الذين، على الجمع، وهي قراءة مشكلة، لأنا قد ذكرنا أن الذي إذا كان أصله الذين فحذفت نونه تخفيفًا لا يعود الضمير عليه إلا كما يعود على الجمع، فكيف إذا صرح به؟ وإذا صحت هذه القراءة فتخريجها عندي على وجوه: أحدها: أن يكون إفراد الضمير حملًا على التوهم المعهود مثله في لسان العرب، كأنه نطق بمن الذي هو لفظ ومعنى، كما جزم بالذي من توهم أنه نطق بمن الشرطية، وإذا كان التوهم قد وقع بين مختلفي الحد، وهو إجراء الموصول في الجزم مجرى اسم الشرط، فبالحري أن يقع بين متفقي الحد، وهو الذين، ومن الموصولان مثال الجزم بالذي، قول الشاعر، أنشده ابن الأعرابي:
كذاك الذي يبغي على الناس ظالمًا ** تصبه على رغم عواقب ما صنع

الثاني: أن يكون إفراد الضمير، وإن كان عائدًا على جمع اكتفاء بالإفراد عن الجمع كما تكتفي بالمفرد الظاهر عن الجمع، وقد جاء مثل ذلك في لسان العرب، أنشد أبو الحسن:
وبالبدو منا أسرة يحفظوننا ** سراع إلى الداعي عظام كراكره

أي كراكرهم.
والثالث: أن يكون الفاعل الذي في استوقد ليس عائدًا على الذين، وإنما هو عائد على اسم الفاعل المفهوم من استوقد، التقدير استوقد هو، أي المستوقد، فيكون نحو قوله تعالى: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات} أي هو أي البداء المفهوم من بدا على أحد التأويلات في الفاعل في الآية، وفي العائد على الذين وجهان على هذا التأويل.
أحدهما: أن يكون حذف وأصله لهم، أي كمثل الذي استوقد لهم المستوقد نارًا وإن لم تكن فيه شروط الحذف المقيس، فيكون مثل قول الشاعر:
ولو أن ما عالجت لين فؤادها ** فقسا استلين به للان الجندل

يريد ما عالجت به، فحذف حرف الجر والضمير، وإن لم يكن فيه شروط الحذف المقيس، وهي مذكورة في مبسوطات كتب النحو، وضابطها أن يكون الضمير مجرورًا بحرف جر ليس في موضع رفع، وأن يكون الموصول، أو الموصوف به الموصول، أو المضاف للموصول قد جر بحرف مثل ذلك الحرف لفظًا ومعنىً، وأن يكون الفعل الذي تعلق به الحرف الذي جر الضمير، مثل ذلك الفعل الذي تعلق به الحرف السابق.
والوجه الثاني: أن تكون الجملة الأولى الواقعة صلة لا عائد فيها، لكن عطف عليها جملة بالفاء، وهي جملة لما وجوابها، وفي ذلك عائد على الذي، فحصل الربط بذلك العائد المتأخر، فيكون شبيهًا بما أجازوه من الربط في باب الابتداء من قولهم: زيد جاءت هند فضربتها، ويكون العائد على الذين الضمير الذي في جواب لما، وهو قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} ولم يذكر أحد ممن وقفنا على كلامه تخريج قراءة ابن السميمع.
واستوقد: استفعل، وهي بمعنى افعل.
حكى أبو زيد: أوقد واستوقد بمعنى، ومثله أجاب واستجاب، وأخلف لأهله واستخلف أي خلف الماء، أو للطلب، جوز المفسرون فيها هذين الوجهين من غير ترجيح، وكونها بمعنى أوقد، قول الأخفش، وهو أرجح لأن جعلها للطلب يقتضي حذف جملة حتى يصح المعنى، وجعلها بمعنى أوقد لا يقتضيه.
ألا ترى أنه يكون المعنى في الطلب استدعوا نارًا فأوقدوها، {فلما أضاءت ما حوله} لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب، إنما تتسبب عن الاتقاد، فلذلك كان حملها على غير الطلب أرجح، والتشبيه وقع بين قصة وقصة، فلا يحتاج في نحو هذا التشبيه إلى مقابلة جماعة بجماعة.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {مثل الذين حملوا التوارة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا} وعلى أنه في قوله: {كمثل الذي استوقد نارًا} هو من قبيل المقابلة أيضًا؟ ألا ترى أن المعنى هو كمثل الجمع؟ أو الفوج الذي استوقد، فهو من المفرد اللفظ المجموع المعنى.
على أن من المفسرين من تخيل أنه مفرد ورام مقابلة الجمع بالجمع، فادعى أن ذلك هو على حذف مضاف التقدير، كمثل أصحاب الذي استوقد، ولا حاجة إلى هذا الذي قدره لأنه لو فرضناه مفردًا لفظًا ومعنى لما احتيج إلى ذلك، لأن التشبيه إنما جرى في قصة بقصة، وإذا كان كذلك فلا تشترط المقابلة، كما قدمنا، ونكر نارًا وأفردها، لأن مقابلها من وصف المنافق إنما هو نزر يسير من التقييد بالإسلام، وجوانحه منطوية على الكفر والنفاق مملوءة به، فشبه حاله بحال من استوقد نارًا ما إذ ما إذ لا يدل إلا على المطلق، لا على كثرة ولا على عهد، والفاء في فلما للتعقيب، وهي عاطفة جملة الشرط على جملة الصلة، ومن زعم أنها دخلت لما تضمنته الصلة من الشرط وقدره إن استوقد فهو فاسد من وجوه، وقد تقدم الرد على ما يشبه هذا الزعم في قوله: {فما ربحت تجارتهم} فأغنى عن إعادته هنا.
وأضاءت: قيل متعد وقيل لازم ومتعد، قالوا: وهو أكثر وأشهر، فإذا كان متعديًا كانت الهمزة فيه للنقل، إذ يقال: ضاء المكان، كما قال العباس بن عبد المطلب، في النبي عليه الصلاة والسلام: وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق.
والفاعل إذ ذاك ضمير النار وما مفعولة وحوله صلة معمولة لفعل محذوف لا نكرة موصوفة وحوله صفة لقلة استعمال ما نكرة موصوفة، وقد تقدم لنا الكلام في ذلك، أي فلما أضاءت النار المكان الذي حوله، وإذا كان لازمًا فقالوا: إن الضمير في أضاءت للنار، وما زائدة، وحوله ظرف معمول للفعل، ويجوز أن يكون الفاعل ليس ضمير النار، وإنما هو ما الموصولة وأنث على المعنى، أي: فلما أضاءت الجهة التي حوله، كما أنثوا على المعنى في قولهم: ما جاءت حاجتك.
وقد ألم الزمخشري بهذا الوجه، وهذا أولى مما ذكروه لأنه لا يحفظ من كلام العرب: جلست ما مجلسًا حسنًا، ولاقت ما يوم الجمعة، والحمل على المعنى محفوظ، كما ذكرناه، ولو سمع زيادة في ما نحو هذا، لم يكن ذلك من مواضع اطراد زيادة ما، والأولى في الآية بعد ذلك أن يكون أضاءت متعدية، فلا تحتاج إلى تقدير زيادة، ولا حمل على المعنى.
وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة: فلما ضاءت ثلاثيًا فيتخرج على زيادة ما وعلى أن تكون هي الفاعلة، إما موصولة وإما موصوفة، كما تقدم، ولما جوابها: {ذهب الله بنورهم} وجمع الضمير في: بنورهم حملًا على معنى الذي، إذ قررنا أن المعنى كالجمع الذي استوقد، أو على ذلك المحذوف الذي قدره بعضهم، وهو كمثل أصحاب الذي استوقد، وأجازوا أن يكون جواب لما محذوفًا لفهم المعنى، كما حذفوه في قوله: {فلما ذهبوا به وأجمعوا} الآية.
قال الزمخشري: وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس الدال عليه، انتهى.
وقوله: لاستطالة الكلام غير مسلم لأنه لم يستطل الكلام، لأنه قدره خمدت، وأي استطالة في قوله: {فلما أضاءت ما حوله} خمدت؟ بل هذا لما وجوابها، فلا استطالة بخلاف قوله: {فلما ذهبوا به} فإن الكلام قد طال بذكر المعاطيف التي عطفت على الفعل وذكر متعلقاتها بعد الفعل الذي يلي لما، فلذلك كان الحذف سائغًا لاستطالة الكلام.
وقوله: مع أمن الإلباس، وهذا أيضًا غير مسلم، وأي أمن إلباس في هذا ولا شيء يدل على المحذوف؟ بل الذي يقتضيه ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه أن يكون {ذهب الله بنورهم} هو الجواب، فإذا جعلت غيره الجواب مع قوة ترتب ذهاب الله بنورهم على الإضاءة، كان ذلك من باب اللغز، إذ تركت شيئًا يبادر إلى الفهم وأضمرت شيئًا يحتاج في تقديره إلى وحي يسفر عنه، إذ لا يدل على حذفه اللفظ مع وجود تركيب {ذهب الله بنورهم}.
ولم يكتف الزمخشري بأن جوز حذف هذا الجواب حتى ادعى أن الحذف أولى، قال: وكان الحذف أولى من الإثبات، لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ للفظ في أداء المعنى، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت، فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار، انتهى.
وهذا الذي ذكره نوع من الخطابة لا طائل تحتها، لأنه كان يمكن له ذلك لو لم يكن يلي قوله: {فلما أضاءت ما حوله} قوله: {ذهب الله بنورهم}.
وأما ما في كلامه بعد تقدير خمدت إلى آخره، فهو مما يحمل اللفظ ما لا يحتمله، ويقدر تقادير وجملًا محذوفة لم يدل عليها الكلام، وذلك عادته في غير ما كلام في معظم تفسيره، ولا ينبغي أن يفسر كلام الله بغير ما يحتمله، ولا أن يزاد فيه، بل يكون الشرح طبق المشروح من غير زيادة عليه ولا نقص منه.
ولما جوز واحذف الجواب تكلموا في قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} فخرجوا ذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون مستأنفًا جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل: ذهب الله بنورهم.
والثاني: أن يكون بدلًا من جملة التمثيل على سبيل البيان، قالهما الزمخشري، وكلا الوجهين مبنيان على أن جواب لما محذوف، وقد اخترنا غيره وأنه قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} والوجه الثاني من التخريجين اللذين تقدم ذكرهما، وهو أن يكون قوله: {ذهب الله بنورهم} بدلًا من جملة التمثيل، على سبيل البيان، لا يظهر في صحته، لأن جملة التمثيل هي قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} فجعله {ذهب الله بنورهم} بدلًا من هذه الجملة، على سبيل البيان، لا يصح، لأن البدل لا يكون في الجمل إلا إن كانت الجملة فعلية تبدل من جملة فعلية، فقد ذكروا جواز ذلك.
أما أن تبدل جملة فعلية من جملة إسمية فلا أعلم أحدًا أجاز ذلك، والبدل على نية تكرار العامل.
والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب لأنها لم تقع موقع المفرد، فلا يمكن أن تكون الثانية على نية تكرار العامل، إذ لا عامل في الأولى فتكرر في الثانية فبطلت جهة البدء فيها، ومن جعل الجواب محذوفًا جعل الضمير في بنورهم عائدًا على المنافقين.
والباء في بنورهم للتعدية، وهي إحدى المعاني الأربعة عشر التي تقدم أن الباء تجيء لها، وهي عند جمهور النحويين ترادف الهمزة.
فإذا قلت: خرجت بزيد؛ فمعناه أخرجت زيدًا، ولا يلزم أن تكون أنت خرجت، وذهب أبو العباس إلى أنك إذا قلت: قمت بزيد، دل على أنك قمت وأقمته، وإذا قلت: أقمت زيدًا، لم يلزم أنك قمت، ففرق بين الباء والهمزة في التعدية.
وإلى نحو من مذهب أبي العباس ذهب السهيلي، قال: تدخل الباء، يعني المعدية، حيث تكون من الفاعل بعض مشاركة للمفعول في ذلك الفعل نحو: أقعدته، وقعدت به، وأدخلته الدار، ودخلت به، ولا يصح هذا في مثل: أمرضته، وأسقمته.
فلابد إذن من مشاركة، ولو باليد، إذا قلت: قعدت به، ودخلت به.
ورد على أبي العباس بهذه الآية ونحوها.
ألا ترى أن المعنى أذهب الله نورهم؟ ألا ترى أن الله لا يوصف بالذهاب مع النور؟ قال بعض أصحابنا، ولا يلزم ذلك أبا العباس: إذ يجوز أن يكون الله وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به، كما وصف نفسه تعالى بالمجيء في قوله: {وجاء ربك} والذي يفسد مذهب أبي العباس من التفرقة بين الباء والهمزة قول الشاعر:
ديار التي كانت ونحن على منى ** تحل بنا لولا نجاء الركائب

أي تحلنا ألا ترى أن المعنى تصيرنا حلالًا غير محرمين، وليست تدخل معهم في ذلك لأنها لم تكن حرامًا، فتصير خلالًا بعد ذلك؟ ولكون الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما، فلا يقال: أذهبت بزيد، ولقوله تعالى: {تنبت بالذهن} في قراءة من جعله رباعيًا تخريج بذكر في مكانه، إن شاء الله تعالى.
ولباء التعدية أحكام غير هذا ذكرت في النحو.
وقرأ اليماني: أذهب الله نورهم، وهذا يدل على مرادفة الباء للهمزة، ونسبة الإذهاب إلى الله تعالى حقيقة، إذ هو فاعل الأشياء كلها.
وفي معنى: {ذهب الله بنورهم} ثلاثة أقوال: قال ابن عباس: هو مثل ضرب للمنافقين، كانوا يعتزون بالإسلام، فناكحهم المسلمون ووارثوهم وقاسموهم الفيء، فلما ماتوا سبلهم الله العز، كما سلب موقد النار ضوءه، وتركهم في ظلمات، أي في عذاب.
الثاني: إن ذهاب نورهم باطلاع الله المؤمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر من كفرهم.
الثالث: أبطل نورهم عنده، إذ قلوبهم على خلاف ما أظهروا، فهم كرجل أوقد نارًا ثم طفئت فعاد في ظلمة.
وهذه الأقوال إنما تصح إذا كان الضمير في بنورهم عائدًا على المنافقين، وإن عاد على المستوقدين، فذهاب النور هو إطفاء النار التي أوقدوها، ويكون بأمر سماوي ليس لهم فيه فعل، فلذلك قال الضحاك: لما أضاءت النار أرسل الله عليها ريحًا عاصفًا فاطفأها، وهذا التأويل يأتي على قول من قال: إنها نار حقيقة أوقدها أهل الفساد ليتوصلوا بها وبنورها إلى فسادهم وعبثهم، فأخمد الله نارهم وأضل سعيهم، وأما إذا قلنا إن ذكر النار هنا مثل لا حقيقة لها، وإن المراد بها نار العداوة والحقد، فإذهاب الله لها دفع ضررها عن المؤمنين.
وإذا كانت النار مجازية، فوصفها بالإضاءة ما حول المستوقد هو من مجاز الترشيح، وقد تقدم الكلام فيه.
وإذهاب النور أبلغ من إذهاب الضوء لاندراج الأخص في نفي الأعم، لا العكس.
فلو أتى بضوئهم لم يلزم ذهاب النور.
والمقصود إذهاب النور عنهم أصلًا، ألا ترى كيف عقبه بقوله: {وتركهم في ظلمات}؟ وإضافة النور إليهم من باب الإضافة بأدنى ملابسة، إذ إضافته إلى النار هو الحقيقة، لكن مما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم.
وقرأ الجمهور: في ظلمات بضم اللام، وقرأ الحس، وأبر السماك: بسكون اللام، وقرأ قوم: بفتحها.
وهذه اللغى الثلاث جائزة في جمع فعلة الاسم الصحيح العين، غير المضعف، ولا المعل اللام بالتاء.
فإن اعتلت بالياء نحو: كلية، امتنعت الضمة، أو كان مضعفًا نحو: دره، أو معتل العين نحو: سورة، أو وصفًا نحو: بهمة امتنعت الفتحة والضمة.
وقرأ قوم: إن ظلمات، بفتح اللام جمع ظلم، الذي هو جمع ظلمة.
فظلمات على هذا جمع جمع، والعدول إلى الفتح تخفيفًا أسهل من ادعاء جمع الجمع، لأن العدول إليه قد جاء في نحو: كسرات جمع كسرة جوازًا، وإليه في نحو: جفنة وجوبا.
وفعلة وفعلة أخوات، وقد سمع فيها الفتح بالقيود التي تقدمت، وجمع الجمع ليس بقياس، فلا ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل قاطع.
وقرأ اليماني: في ظلمة، على التوحيد ليطابق بين إفراد النور والظلمة وقراءة الجمع، لأن كل واحد له ظلمة تخصه، فجمعت لذلك.
وحيث وقع ذكر النور والظلمة في القرآن جاء على هذا المنزع من إفراد النور وجمع الظلمات.
وسيأتي الكلام على ذلك، إن شاء الله.
ونكرت الظلمات ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اكتفاء بما دل عليه المعنى من إضافتها إليهم من جهة المعنى واختصار اللفظ، وإن كان ترك متعديًا لواحد فيحتمل أن يكون: في ظلمات، في موضع الحال من المفعول، فيتعلق بمحذوف، ولا يبصرون: في موضع الحال أيضًا، إما من الضمير في تركهم وإمّا من الضمير المستكن في المجرور فيكون حالًا متداخلة، وهي في التقديرين حال مؤكدة.
ألا ترى أن من ترك في ظلمة لزم من ذلك أنه لا يبصر؟ وإن كان ترك مما يتعدى إلى اثنين كان في ظلمات في موضع المفعول الثاني، ولا يبصرون جملة حالية؟ ولا يجوز أن يكون في ظلمات في موضع الحال، ولا يبصرون جملة في موضع المفعول الثاني، وإن كان يجوز ظننت زيدًا منفردًا لا يخاف، وأنت تريد ظننت زيدًا في حال انفراده لا يخاف لأن المفعول الثاني أصله خبر المبتدأ، وإذا كان كذلك فلا يأتي الخبر على جهة التأكيد، إنما ذلك على سبيل بعض الأحوال لا الإخبار.
فإذا جعلت في ظلمات في موضع الحال كان قد فهم منها أن من هو في ظلمة لا يبصر، فلا يكون في قوله: {لا يبصرون} من الفائدة إلا التوكيد، وذلك لا يجوز في الإخبار.
ألا ترى إلى تخريج النحويين قول امرئ القيس:
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له ** بشق وشق عندنا لم يحول

على أن وشق مبتدأ وعندنا في موضع الخبر، ولم يحول جملة حالية أفادت التأكيد، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع الخبر، لأنه يؤدي إلى مجيء الخبر مؤكدًا، لأن نفي التحويل مفهوم من كون الشق عنده، فإذا استقر عنده ثبت أنه لم يحول عنه.
قال ابن عباس: والظلمات هنا العذاب، وقال مجاهد: ظلمة الكفر، وقال قتادة: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت، وقال السدّي: ظلمة النفاق، ولم يذكر مفعول لا يبصرون، ولا ينبغي أن ينوي، لأن المقصود نفي الإبصار عنهم لا بالنسبة إلى متعلقه. اهـ.